الاثنين، 4 يونيو 2018

في تأويليّة صوم رمضان

بقلم أ. دبابي مديحة

بصرف النظر عن فضله من الناحية الدينية  ومقاصده الاقتصادية والاجتماعية والنفسية يكتنز رمضان دلالات روحية ورمزية ووجودية قد تحجبها الدلالة الظاهرية  . وهو مايكشفه السؤال : لماذا كُتِب علينا الصيام؟
          
  إن الأصل في العبادات  هو التعبد لا التعليل على عكس المعاملات  حيث الأصل فيها التعليل نظرا لقيامها على مصالح العباد وبين هاتين الثنائيتين (التعبد و التعليل) نجد الحكيم الترمذي يتجاوز سقف الانقسام الثاوي في القواعد الأصولية  بالبحث في علل العبادات. فعلة الصوم حسب الحكيم الترمذي في كتاب إثبات العلل :
 ''الصوم هو الكف عن عادة تعتادها  فإذا منعت النفس تلك العادة اشتد عليها فكان في ذلك تسليم الجسد إلى الله تعالي" ( ص ص 177،178)  
          
فالصوم كف وترك العادة والاقلاع عنها إذا الصوم هوفعل الترك / ترك الفعل . لكن من جهة أخرى الصوم عادة من قبلنا [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] (البقرة : 183).فالأمم المختلف بشرائعها المختلفة  (الإلهية والوضعية) عرفت الصوم، فالصوم له تاريخ في أفق التجربة الروحية للإنسان، مع الاختلاف بين كل دين ومعتقد،  لكن يتفقون على أنه كف عن كل ما يسيء ويضر الكائن في ذاته أو للبشرية جميعا وقيمها العليا، فصوم رمضان عادة ومناهض للعادة في الوقت عينه.
       
   يخلق رمضان عالما خاصا وزمنا خاصا رمضان لا يخضع للزمان العادي بل يهب  لنا زمنا خاصا يدخل رمضان عبر التحري عن زمنه الخاص برؤية هلاله/ بارقة النور في ظلام سماءنا لينطلق السفر والعروج والتسابق والتقرب من النور في داخلنا الذي طمرته العادة والتكرار.
        
   رمضان منعطف له التعليق والتوقف والانقطاع والكف والامساك عن عادات وفي الوقت الذي أراده الجليل تبارك وتعالى إمساكا وإفطارا بميل الكائن عن عادته وأهوائه وشهواته نحو نور الله عز وجل، ؛ لأن الصوم هو ترك المفطرات - المباحة  أصلا - في وقت مخصوص، فرمضان هنا صبر على الطاعة والمعصية  في الوقت عينه . إذا المنع والإمساك ليس غاية في ذاته وليس مطلقا، وإنما هو تعليق وتأخير المباحات إلى حين، فرمضان يجعل المباح – محظورا مؤقتا؛ يوقف الثابت الآلي الصلب الفطري كالحاجة إلى الطعام والشراب  .... فكل كائن يقاوم عادته في رمضان ويكابد معالي الأمور وأشرفها برياضة  جسده على الجلد والمجاهدة وتحفيز الإرادة فهو شهر تفكيك العادات البشرية المتكلسة , فيكون علاجا وجسر نقاهة للكائن "صوموا تصحوا" عبر تجريب المعاناة  ، ولو  تأملنا حتى الشياطين ومردة الجن مصفّدة وأبواب النار مغلقة –حسب ما يقول الحديث الشريف- فلا يجد الكائن أي مبرر ليعلّق عليه فشله أو ممطالته وانهزامه وارتكاسه، في المقابل تخلق عادات أخرى ، يحيي فاعلية التأمل والتدبر لانعتاق الروح / نفخة من الله من سجن العادة .من خلال الاستمراريّة في مجاهدة الأهواء وطرح الرغبات والفطام عن الحاجة .وقوفا عند حدود الله طاعة وانقيادا .



          لما يقطع الكائن مع عادته ورغباته وحاجاته، يرجع على ذاته بالمراجعة والتفكر، حيث ينزل الكائن في ضيافة محبوبه ويلتجأّ إلى مولاه عز وجل ينعم عليه بفضله الواسع اللامحدود قال الله تعالى في الحديث القدسي: «كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلاَّ الصوم فإنه لي وأنا أجزي به» فيقتبس من فيض الصمديّة  التي لله وينافس الملائكة المقربين ويتفوّق عليهم لأنهم ألهموا الطاعة فيما هو يختلف عنهم فهو يجاهد ويكابد أهواءه ورغباته وعاداته، 
      

   الصوم سر بين الله وعبده بل هو الشعيرة الأكثر سرية '' إِنَّهُ عَمَلٌ فِي الْبَاطِنِ بِالصَّبْرِ الْمُجَرَّدِ '' كما يقول  الغزالي في إحياء علوم الدين ، وهدية  "الله" إليه : فرحتان واحدة راهنة  -عند فطره- وأخرى مؤجلة يوم يلقى ربه, لا أحد يقدر على إدراكها ، لأن ترك الفعل /فعل الترك يتضمن قوة داعية للرد فالله تعالى يباهي ملائكته بصوم عبده لأجله ، قال صلى الله عليه وسلم :" يقول الله عز وجل انظروا يا ملائكتي إلى عبدي ترك شهوته ولذته وطعامه وشرابه من أجلي " فللصائم فرحتان فرحة راهنة وأخرى مؤجلة " إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به " فزمن هدية الصوم وأجره غير محدد مايجعله  شوقا وتوقعا لامحدودا وهو هنا يختلف عن زمن القرض " مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ" ( سورة الحديد الأية 11)

      
      الصوم زكاة الجسد كما يقول الحكيم الترمذي، والجسد "طينة الله" بعد أن يتوقف عن كل شيء، يُشغل الكائن بمحبوبه عما سواه "يغيب  عن رؤية الخلق برؤية الحق" كما يقول السادة الصوفية ، فيتم استخلاص هذا الكائن روحا وجسدا لله عز وجل ووقفه عليه في سلب تام حيث يرجع ما لله لله ، وهنا نرجع لمفهوم السابق للصوم الذي طرحه الترمذي عندما قال : ''الصوم هو الكف عن عادة تعتادها  فإذا منعت النفس تلك العادة اشتد عليها فكان في ذلك تسليم الجسد إلى الله تعالى" فيتوقد الإيمان من تجربته الخاصة - وليس بوصفه معطى سلفا-.

هناك تعليق واحد: