السبت، 24 أكتوبر 2015

طائر في يدي، حيّ هو أم ميت؟: توني موريسون



طائر في يدي، حيّ هو أم ميت؟: توني موريسون

ترجمة: محمد عيد إبراهيم

نص المحاضرة التي ألقتها الروائية توني موريسون في ستوكهولم عام 1993، احتفالاً بتسلمها جائزة نوبل. أبرز ما في المحاضرة هو الحديث عن عشق اللغة، من خلال أمثولة شعبية زنجية، تنتهي معها إلى أن اللغة الحقيقية لا تخفي معها غنيمة عنصرية مهما كان مستعملوها يشيعون ذلك بين جنباتها.

******
توني موريسون

«كان يا ما كان هناك امرأة عجوز. عمياء لكن حكيمة». أو كان رجلاً عجوزاً؟ هادياً، ربما. أو عصبة أطفال متململين بهدوء. سمعت هذه الحكاية، أو أخرى مثلها بالضبط، في سياق ثقافات عديدة.


«كان يا ما كان هناك امرأة عجوز. عمياء. حكيمة».

في الرواية عرفت امرأة كانت ابنة عبيد، سوداء أمريكية، تحيا بمفردها في منزل صغير خارج البلدة. مكانتها كحكيمة دون نظير لا خلاف عليها. بين ناسها هي القانون وانتهاكه معاً. كان التكريم الذي أولوها به والرعب الذي أقاموه من حولها يصل وراء الحي إلى أماكن جد بعيدة، إلى المدينة حيث تكون نباهة المتنبئين الريفيين مصدر تسلية كبيرة.

ذات يوم زار المرأةَ بعضُ شباب كانوا يميلون إلى دحض استبصارها وفضح دجلها الذي يعتقدونه فيها. خطتهم بسيطة: يدخلون منزلها يسألونها السؤال الوحيد الذي سيهدي بجوابه فحسب إلى اختلافها عنهم، الاختلاف الذي سيعتبرونه كعماها: انعدام أهلية تاماً. يقفون وراءها، ويقول أحدهم «أيتها العجوز، إني أمسك في يدي طائراً. فقولي لي حيّ هو أم ميت».

لم ترد، فكرر السؤال: «هل الطائر الذي أمسكه حيّ أم ميت؟»

لم ترد حتى الآن. فهي عمياء غير قادرة أن ترى زوارها، ناهيك عما في أيديهم. لا تعرف لهم لوناً أو جنساً أو موطناً. تعرف فقط حافزهم.

صمتُ المرأة العجوز يطول جداً، وقد تعب الشباب من حبسة الضحك.

تتحدث أخيراً بصوت رفيق لكنه صارم. تقول «لا أعرف، إن كان الطائر الذي تمسكونه حياً أو ميتاً، لكن ما أعرفه بالتأكيد أنه في أيديكم. هو في أيديكم».


يمكن لجوابها أن يؤخذ على محمل: إن كان ميتاً، فقد وجدتموه هكذا أو أنكم قتلتموه. وإن كان حياً فقتله سيحلّ من بعد. أن يكون على قيد الحياة، فهذا قراركم. ومهما تكن القضية فهي مسؤوليتكم.


ولاستعراض قوتهم أمام عجزها، أنّبت زوارها الشباب، أخبرتهم أنهم مسؤولون ليس عن فعلة الاستهزاء بل أيضاً عن حزمة الحياة القليلة التي ضحوا بها في سبيل إنجاز مقصدهم. فكان أن أبدلت العمياء اهتمامهم بعيداً عن ادعاءات القوة إلى الآلة التي تُمارَس القوة من خلالها.


إن تأمل ما يشير إليه الطائر باليد (فضلاً عن هيكله الهش) هو الجذاب عندي على الدوام، بل يستدعي خصوصاً الآن تفكيري عما أؤديه من عمل جلبني إلى هذه الصحبة. لذلك آثرت أن أدلّ على اللغة بهذا الطائر، وعلى الكاتبة المتمرسة بهذه المرأة. فهي قلقة على اللغة التي تحلم بها، الممنوحة لها عند الميلاد، الملموسة، المطروحة للخدمة، حتى التي تمسك عنها لأغراض محددة شائنة.


لأنها كاتبة تفكر في اللغة جزئياً كنظام، وجزئياً كشيء يسيطر عليه المرء، لكن في الأغلب كوسيط، فعلٍ بنتائجه. لذلك كان سؤال الأطفال للمرأة «هل هو حيّ أم ميت؟» غير مصطنع لأنها تفكر في اللغة كشيء قابل للموت، للانمحاء، منذر للخطر بالتأكيد ويمكن تعويضه بجهود الإرادة فقط.

تعتقد لو كان الطائر بأيدي زوارها ميتاً، فالقيّمون عليه مسؤولون عن الجثة. بالنسبة لها، ليست اللغة الميتة ما لم يعد يتحدث به المرء أو يكتبه، بل لأن محتواها صلد فيعجبها ركودها الخاص. مثل اللغة الرسمية، مراقِبة ومراقَبة. متحجرة في واجباتها الحاكمة، ليس بها رغبة أو غرض غير الحفاظ على المجال الحرّ لنرجسيتها المخدرة، لاحتكارها وهيمنتها.

عموماً، هي محتَضرة لا لانعدام تأثيرها بل لأنها تُحبط العقل بشكل فعال، تؤخر الوعي وتقمع الممكن البشري. لا تنفتح على الفضول، ليس لها أن تصوغ أو تُجيز أفكاراً جديدة، أو تشكّل مقاصد أخرى، أو تحكي حكاية أخرى، أو تملأ نسيانات مرتبكة.

تندكّ اللغة الرسمية بجهل مصدّق عليه بامتياز محفوظ، فهي نمط من درع لامع بزينة صادمة، كمحارة غادرها الفارس منذ زمان طويل. لا يزال الأمر هكذا: فهي بكماء ضارية ووجدانية. بمهابة مثيرة لدى أطفال المدارس، وتسبغ حمايتها على الطغاة، تستدعي الذكريات الزائفة للاستقرار والانسجام بين المجموع.

تقتنع أنه حين تموت اللغة، بدافع من الإهمال وسوء الاستعمال وغيبة المهابة واللامبالاة، أو تُقتل بكلمة «ليكن»، فليست هي فقط بل كل مستخدميها وصناعها مسؤولون عن زوالها. في بلادها، قد يعضّ الأطفال ألسنتهم وهم يضعون كرات صغيرة بدلاً من ترديد صوت لغة بكماء مضعِفة ومستضعَفة، لغة يهجرها البالغون كلياً كجهاز تبليغ لمعنى يمدهم باسترشاد أو يعبّرون به عن الحب.

لكنها تعرف أن «انتحار الكلام» لا يوجد في صوت الأطفال فقط، فهو شائع بين الأدمغة الصبيانية لتجار القوة والطبقة، حيث لا تدع لهم لغتهم المفرّغة مدخلاً لما يتبقى من مواهبهم البشرية، لأنهم يتحدثون بها إلى من يطيع أو ليفرضوا طاعة.

يمكن التعرف على النهب المنظم للغة من خلال ميل مستخدميها للامتناع عن استعمال خصائصها الدقيقة المعقدة والمولّدة، كأنها خطر واستعباد. إن اللغة المستبدة تفعل أكثر من تمثّل العنف فهي العنف ذاته، وتفعل أكثر من تمثّل حدود المعرفة فهي تحدد المعرفة.

مهما كانت اللغة رفيعة غامضة أو لغة مبتذلة لإعلام غبي، مهما كانت اللغة أكاديمية متكبرة بل متكلسة أو لغة علم تُساق سلعة، مهما كانت اللغة ضارية لقانون بلا أخلاق أو لغة مفصّلة لإقصاء الأقليات، لتُخفي غنيمتها العنصرية في جانب أدبي ـ فلابد أن تُنبذ وتُعدّل فتنكشف.

هي اللغة التي تشرب دماً، تنطوي في قابلية الانجراح، وتزمّ أحذيتها الفاشية تحت أردية الاحترام والوطنية بينما تسعى في غير شفقة نحو الحد الأدنى والمزاج عويص الفهم. لغة جنسية، لغة عنصرية، لغة قدسية: كلها نماذج للغات مسيطرة حاكمة، عاجزة لا تسمح بمعرفة جديدة أو تحثّ على تبادل مشترك لأفكار.

تعي العجوز بعنف أنه ما من مرتزقة فكري، مستبد نهم، سياسي أو ديماجوجي مدفوع الأجر أو صحفي زائف، يمكنه الاقتناع بأفكارها. هناك إذن وستكون، لغة محرضة لمواطنين مسلِّحين ومسلَّحين، مجزورين وجازرين في المتنزهات، ديار القضاء، مكاتب البريد، الملاعب، غرف النوم، والشوارع المشجرة، لغة منشّطة ومستظهِرة، تُقنّع الشفقة وتُبدّد الموت بغير لزوم.


ستوجد لغة أكثر لياقة لتقرّ الاغتصاب والتعذيب والاغتيال. هناك إذن وستكون، لغة محورة مغوية، فصّلت لخنق النساء، لحزم حلوقهن مثل إوز معجون، بكلماتهن غير المنطوقة المنتهَكَة، ستوجد لغة مراقَبة أكثر بمظهر بحث علمي عن ميول الساسة والتاريخ المبرمج لاستدعاء معاناة ملايين خرساء، لغة فاتنة تثير المستائين المحرومين للانقضاض على جيرانهم، لغة تجريب زائف متعجرفة تمتهن لَجم المبدعين في أقفاص من الدونية والعجز.

لغة تحت الفصاحة والسحر والتداعيات المثقفة عموماً، منشطة أو مغوية، لغة بقلب واهن، أو لا يدق على الإطلاق ـ لو كان الطائر ميتاً بالفعل.

فكرت فيما يكون عليه التاريخ الفكري لأي نظام لو لم يكن مصراً على أو مدفوعاً إلى فاقد الوقت والحياة مما يتطلب مبررات ومتمثلات للهيمنة، فهناك أكثر من خطاب مهلك للإقصاء يسد المدخل على إدراك النابذ والمنبوذ.

الحكمة المألوفة من حكاية "برج بابل" أن الانهيار بلية. ذلك كان النزاع، لربما ثقل اللغات العديدة ما طوّح بعمارة البرج الواهنة. عجّلت لغة الوحدة والتناغم بالمبنى أو وصلت إليه السماء. سماء من، تتساءل؟ ومن أي نوع؟ ربما كانت مأثرة الجنة أنها مبتسرة، وطائشة قليلاً لو لم يتمكن المرء من وقته لسبر لغات أخرى، آراء أخرى، وحكايات أخرى. لو أتيح لهم ذلك، فالسماء التي تخيلوها تحت أقدامهم. مركّبة، متطلّبة نعم لكنها سماء مشهودة كحياة، لا سماء كحياة سابقة.

لم تود أن تُخلّي زوارها الشباب لانطباع أن اللغة ينبغي قسرها لتظل على قيد الحياة ليس غير. فحيوية اللغة تنصبّ من قابليتها على ترسيم حيوات متحدثيها وقرائها وكتّابها، الممكنة والمتخيلة والفعلية. رغم اتزانها أحياناً في إزاحة الخبرة التي لا بديل عنها، تتخذ مسارها نحو المكان حيث يرقد المعنى.

حين فكر رئيس الولايات المتحدة في بلاده التي صارت جبّانة، قال «لن يلحظ العالم قليلاً أو يتذكر طويلاً ما نقوله هنا، لكنه لن ينسى أبداً ما نفعله هنا». كلماته البسيطة مبهجة بخصائصها التي تؤازر الحياة حيث رفضوا تغليف حقيقة أن ستمائة ألف رجل مات في حرب عنصرية عنيفة مفاجئة.

كان يرفض تخليد ذكرى، آنفا من «كلمة أخيرة»، حريصاً على «تبليغ حُكم»، عارفاً «قوتهم البائسة في الإضافة والنقصان»، فكانت كلماته تشير بإذعان لانعدام قابلية أسْر الحياة التي يتفجعون عليها. هو الإذعان يحركها، التسليم بأن اللغة لا تستعيد الحياة مرة أخرى وللأبد، ولا ينبغي لها. ليس للغة أن «تصبّر» العبودية، الإبادة الجماعية، الحرب. ولا ينبغي لها أن ترثي غطرسة لتكون قادرة على الفعل، فقوتها أو لياقتها في وصولها صوب ما لا يوصف.

سواء كانت لغة رفيعة أو هزيلة، متحجرة، منفجرة، أو ترفض التقديس، تضحك بصخب أو تطلق صرخة دون حروف الهجاء، الكلمة المختارة، الصمت المختار، فهي لغة مسالمة تدفق تجاه المعرفة لا نحو دمارها. لكن، من لا يعرف إدانة الأدب لأنه استفهامي، الشك فيه لأنه نقدي، محوه لأنه بديل؟ وكم مرة يُنتَهَك بدعوى اللسان الذي يخرّب ذاته؟

تعتقد العجوز أن عمل الكلمة سامٍ لأنه مولّد، فهو يكوّن المعنى الذي يصون تمايزنا، تمايزنا البشري بالطريقة التي لا نشبه فيها أي حياة أخرى.

نحن نموت، ربما ذلك معنى الحياة. لكننا ننجز لغة، ربما ذلك كنز حياتنا.

«كان يا ما كان،...» يستفهم زوار من عجوز. من هؤلاء الأطفال؟ ماذا يقصدون من المناوشة؟ من الكلمات الأخيرة التي سمعوها منها «الطائر في أيديكم؟» كلمة تُلمّح لتُسقط المزلاج؟ ربما سمع الأطفال «هي ليست مشكلتي. فأنا عجوز، أنثى سوداء وعمياء. قدر حكمتي يتمثل بمعرفتي أنه لا يمكنني مساعدتكم. فمستقبل اللغة يخصكم».

يقفون هناك. افرض لا شيء كان في أيديهم؟ افرض أن الزيارة كانت مجرد حيلة، خدعة، ليتم معهم كلام، ويؤخذوا مأخذ الجد كما لم يكونوا من قبل؟ هي فرصة لتأويل أو تدنيس عالم بالغ، بان عطنُ خطابه من أجلهم لكنه أبداً ليس لهم؟ هناك أسئلة عاجلة راهنة، ضمنها ما سألوه «هل الطائر الذي نمسك به حيّ أم ميت؟»، قد يعني «هل يمكن لأحد أن يقول لنا ما الحياة؟ ما الموت؟» فلا خدعة على الإطلاق، لا سخف. سؤال صريح يستحق الاهتمام من شخص حكيم. عجوز. ولو لم يتسن للعجائز والحكماء الذين عايشوا الحياة وواجهوا الموت أن يوصّفوه، فأنى لغيرهم؟

لكنها لم تفعل فهي تحفظ سرها، جميلَ رأيها لذاتها، أقوالها المأثورةَ، فنها من دون ارتكاب. تحتفظ بمسافتها لتدعمها وتسحبها إلى انفراد عزلة، في فضاء محنّك بامتياز.

لا شيء، لا كلمة تتبع ما صرّحت به من تحوّل. صمت عميق، أعمق من المعنى المتاح بالكلمات التي فاهت بها. صمت تشظى، وأطفال منزعجون يملؤونه بلغة اختُرعت تواً.

يسألونها «أما من كلام هناك، كلمات يمكنك أن تمنحينا إياها تساعدنا في اختراق ملف إخفاقاتك؟ إننا نجتاز التعاليم التي منحتنا منذ قليل ألاّ تعاليم على الإطلاق، نسترعي اهتماماً لما قلت بالقدر نفسه؟ لذلك العائق الذي أقمت بين السماحة والحكمة؟

«ليس لدينا أي طائر بأيدينا، حياً أو ميتاً. لدينا أنتِ فقط وسؤالنا الهام. فهل لا تستطيعين تحمّل العدم الذي بأيدينا، تتأملي فيه أو حتى تخمنينه؟ ألا تذكرين وأنتِ صغيرة أن كانت اللغة سحراً بلا معنى؟ تقولين، فلا يعني شيئاً؟ اللامرئي هو ما كان الخيال يجاهد ليراه؟ كانت الأسئلة ومطالب الأجوبة تحترق في سطوع وأنت ترجفين بغضب من عدم المعرفة؟

«هل علينا أن نبدأ الوعي بأبطال وبطلات معركة كالتي خضتها فعلياً وخسرتِ فتركتنا عدم بأيدينا عدا ما تخيلته فيها هناك؟ جوابك بارع، لكن براعته تورطنا وهي حتماً تورطكِ. جوابك غير محتشم في شكره نفسه. مصنوع لأجل شريط تلفزة لا يعي حاسة إن كان العدم بأيدينا.

«لماذا لم تبسطي يديك فتلمسينا بأصابعك اللينة، تؤجلين عضة الصوت، الدرس، حتى تعرفي من نحن؟ هل ازدريت خديعتنا، طريقة فعلتنا التي لم تريها، ذلك أننا كنا نسعى بلا طائل كي نلفت انتباهك؟ نحن شباب. غير ناضجين. سمعنا طيلة حياتنا القصيرة عن ضرورة أن نكون مسؤولين. ماذا يعنيه ذلك بأية حال، فيما يليق بهذه الكلمة في محتواها الأخير، كما قال شاعر «العدم يحتاج أن ينكشف لأنه سافرٌ بالفعل». إرثنا مهين. تريدين منا أن نأخذ عينيك العجوزين البيضاوين لنرى المعتاد والوحشي. هل تظنيننا أغبياء لنحنث بأنفسنا مرة ومرة في رواية عشيرتنا؟ كيف تجرئين أن تكلمينا عن الواجب ونحن واقفون بخصور غاطسة في مادة من سمّ ماضيك؟

«تستهونين بأمرنا وأمر الطائر الذي ليس بأيدينا. ألا من سياق لحياتنا؟ لا أغنية، لا أدب، لا قصيدة مفعمة بفيتامين، ألا من تاريخ يرتبط بخبرة يمكنك اجتيازه لنجدتنا فنبدأ أقوياء؟ أنتِ راشدة. عجوز حكيمة. فكُفّي عن التفكير لإنقاذ وجهك. فكري في حياتنا واحكي لنا عن دنياك. ألفي قصة. بسرد فطري، يبدعنا لحظة أن يُبتدع. فلن نلومك لو بزّ لسانك عما في قبضتك، لو أشعل الحب كلماتك حتى تغرق في لهب ولا شيء يبقى عداه الحريق.

«أو كما بسكينة يدي جراح، لو خاطت كلماتك مجرد أماكن لربما يفيض دم. نعرف أنك لن تستطيعي ذلك في شكله الصحيح، مرة وللأبد. فالولع ليس كافياً، ولا البراعة. لكن جربي. من أجل خاطرنا وخاطرك انسي اسمك في الشارع، واحكي لنا عن صورة العالم عندك بمسافات العتمة وفي النور.

«لا تحكي لنا عما تعتقدين، عما تخافين. أرينا كساء معتقدك الواسع والفتق الذي ينحلّ عن غشاء خوفك منه. أنتِ يا عجوز، مبارك عماكِ، بإمكانك أن تتحدثي اللغة كما تحكي لنا وسع ما تحكيه لنا اللغة: أن نرى دون صور. وحدها اللغة تحمينا أن نرتاع من أشياء بدون أسماء. وحدها اللغة تفكر.

«احكي لنا ما ينبغي أن تكونه امرأة لنعرف ما ينبغي أن يكونه الرجل. ما يسري على الهامش. ماذا يعني أن نكون في العراء بهذا المكان. على غير هدى مع شخص عرفته. ماذا يعني أن نحيا على طرف المدن التي لا تحتمل عشرتك.

«احكي لنا عن مراكب ترحل عن حد الشواطئ في عيد فصح، ومشيمة مرمية في حقل. احكي لنا عن حِمل حافلة من عبيد، كيف كانوا يغنون بنعومة بالغة حتى ليصعب تمييز نسيمهم من بين ثلج ساقط. كيف كانوا يعرفون من حدبة أقرب كتف أن محطتهم القادمة ستكون الأخيرة. كيف كانوا يفكرون في الحرّ ثم الشموس وأيديهم ضارعة بالغريزة. رافعين أوجههم كلحظة الأسر هناك. منحنين كلحظة الأسر هناك. موقوف بهم عند خان. يدلف السائق وتابعه مع القنديل يخلونهم ليهمهموا بالظلام. يتبخر زفير الحصان في الثلج تحت حوافره وهسيسه، بينما ذوبانه موضع حسد العبيد المُجمّدين.

«يُفتح باب الخان: فتاة وغلام يخطوان بعيداً عن نوره. يصعدان إلى سرير الحافلة. سيكون لدى الغلام بندقية خلال أعوام ثلاثة، لكنه الآن يحمل قنديلاً وإبريقاً من عصير دافئ. يمررانه من فم لفم. تعرض الفتاة خبزاً وقطعاً من اللحم، وشيئاً إضافياً: لمحة لعيون من تقوم على خدمته. حصة من طعام لكل رجل، حصتان لكل امرأة. ونظرة. يردون النظر. محطتهم القادمة ستكون الأخيرة. لكن ليست هذه. فهي محطة دافئة».

يهدأ الحال ثانية حين ينتهي الأطفال من الحديث، حتى تقتحم المرأة الصمت. تقول «أخيراً، أثق بكم الآن. أثق بكم مع الطائر الذي ليس في أيديكم، لأنكم حقاً اصطدتموه. فانظروا. كم هو فاتن، هذا الشيء الذي أديناه ـ معاً».

المرجع : جورج باتاي Georges Bataille: طائر في يدي، حيّ هو أم ميت؟: توني موريسون: ترجمة: محمد عيد إبراهيم نص المحاضرة التي ألقتها الروائية توني موريسون في ستوكهولم عام 1993، احتفالاً بتسلمها جائزة نوبل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق